جماليات اللغة في فن السرد

الكاتب/مجدي نصار

ري السراب – مجموعة قصصية – ميرفت البربري

“أيام قاتمات، معتمة المساءات، هاجر القمر عن سمائها إلى سماء لا تظلل أرضها،

حزين فجرها بان عنه الخيط الأبيض بينونة مفجعة،

تصرخ شمسها صرخات خذلان بعد أن حرمت عناق السحب التي رحلت جفاءً، ضحاها ثكل الفرحة،

نهارها مقرح الجفن يتيم الوداد.”هكذا تفتتح ميرفت البربري أحد نصوصها بعنوان (هَدَر).
لا سراب يمكن أن يروي أحدًا، لذا فالجمع بين الكلمتين في عتبة المجموعة ينذر بالتناقض

منذ الوهلة الأولى للتعاطي مع النصوص،

هذا هو المغزى الذي تسعى ميرفت البربري إلى الوصول إليه وتوصيله للقارىء في أغلب القصص؛

تناقض الذات البشرية وغياب الاتساق عن علاقة أقوالها بأفعالها، وقيمها المعلنة بتصرفاتها الحقيقة.
بإهداءٍ يُبشر الصابرين بزوال الأنين الموجِع وإزاحة السراب،

تفتتح الكاتبة أبواب مجموعتها المكونة من خمس وعشرين قصة تختلف أغلبها في ما تناقش

من ثيمات قصصية بيد أن عدد قليل منها يتعلق بموضوع واحد:

تفشي فيروس كورونا وتأثيره على العلاقات البشرية.

ولذلك، كنت أوثر جميع تلك القصص المتفرقة _ متناغمة الثيمة _ في متوالية خاصة داخل العمل.
تبدأ المجموعة بقصة (رِي السراب) بطلتنا الأولى والتي تحمل مرموزات رائعة تحيل العناصر الطبيعية

كالغولة والبحر والمشاعر النفسية كالخوف والانصياع إلى وقائع اجتماعية كالسلطة وانتخاب السياسيين.
بلغة عربية رصينة وعميقة وقوية حد الاقتراب من لغة العرب الأوائل، تسرد الكاتبة قصصها.

نحن أمام كاتبة متيمة باللغة، شديدة الافتتنان بها وبجمالياتها، حتى أنها تُشبع النص بالجماليات فيفيض بها أحيانا!

فقد تشعر في مبتدأ القصص بأن الوصف الجمالي للطبيعة أو التوصيف العميق لدواخل الشخوص

ومشاعر الأبطال يطغون على الحكي ذاته.

لكنها سرعان ما تنتقل للحكي، غير متنازلة عن عرش الجمال اللغوي الذي تنصبه

في حنايا السرد بين فقرة وفقرة.
هل تكتب ميرفت البربري بجمالٍ أم تكتب عن الجمال أم تكتب الجمال ذاته؟

هل تكتب قصصًا أم نثرًا أم شعرًا؟ هي تفعل كل ذلك بمقادير إن شئنا الحق ..

تتجول في الحكاية سردًا وشعرًا …
لكننا هنا لا ينبغي أن ننسى أن اللغة ورغم أنها مثقلة بالجماليات،

تراخت قوتها الجمالية في بعض الفقرات القليلة سواء كانت حوارات محملة بالمعلومات التقريرية الزائدة

(الجمل الوصفية باستخدام ضمائر الوصل)، أو الفقرات التي تنطوي على بيانات تقريرية صحافية

_ تؤهل الكاتبة بامتياز لخوض الغمار الصحافي _

كما في (كان النكران سيد الموقف وتحدث الطمع بلا استحياء)،

أو قليل من المناطق التي أُغوِى فيها قلم البربري برغبة في تصدير الحكمة وتلقين القارىء درسًا،

مدفوعًا بوازع ورسالة يستشعر أهمية توصيلها.
عن الثميات المتعددة في المجموعة حدث ولا حرج، تنشغل البربري بمأساة الإنسان ووجوده،

فأنت كأنما في عرض حي لآفات البشر والمجتمعات. عن الحرية المقموعة تتحدث قصة (حرية)،

ومن هنا نلحظ أن عتبات النصوص تحمل دلالات مباشرة لما ستحكيه القصة،

فميرفت لا تهتم بجماليات العنوان ولا تحاول اصطناع الغموض فيه،

فلديها مهمة أخرى شاقة ومحببة: صناعة الجَمال أو السرد بجمال.

تعود إلى الرمزية في (حرية) ممثلة إياها بامرأة كسيحة،

إلا أن النهاية هنا مباشرة بها رسالة موجهة للحكام العرب وهذا يقع ضمن الجانب الحِكَمي الذي ناقشناه سلفا.

في (ملاذ) و (اغتراب) تناقش التحرش وقناعات البعض الخاطئة بشأن أسباب هذا الفعل.

في (دماء باسمة) رغم طول الحوارات إلا أن الموضوع هام وهو حصر شرف الرجال

في جسد الأنثى ومن ثم تسلطهم عليها حماية لشرفهم المزعوم.

في (صلصال) تعرض مأساة معدومي الموهبة والذين رغم ذلك يجدون مكانًا بين الموهوبين.

تُنوِع البربري بيئات القصص فتعود بنا إلى العصر الفرعوني في (حلم إيزادورا)

وتصحبنا إلى ملحمة حربية عربية قديمة جدًا في (تبًا)،

تصحبك إلى لبنان مرتين تناقش في إحداهما الحرب الأهلية.

ثيمة الفراق واضحة في (حسرة) والجحود والنكران في (هَدَر)، والتباس الهوية الجنسية في (سر)،

والتدين الشكلي والتسلط الفقهي في (ملاذ)،

المرض والوهن والاقتراب من الموت في (نسيبة) وهو نص يموت فيه الكلام ويحيا

ثم يموت بالضبط كما يحدث مع بطلته،

وسيطرة التكنولوجيا على الإنسان في المستقبل البعيد في (عشوائي)

وهو نص خيال علمي تستغل فيه ميرفت مهارتها في توقع إنسان مستقبلي مبرمج

بلا مشاعر أو عقل طبيعي يخصه،والخيانة في (وثاق)، ورد المعروف بالجحود في (ملاك حزين)،

ونزاع الحلم والواقع في (صعود إلى أسفل الدرج)،

والبؤس والتعاسة في (عُرس)، والضعف وقلة الحيلة في (عَلَقَة)،

بالإضافة إلى العنصرية ونبذ المختلف في (منفى).
تسأل نفسك سؤالًا: هل هذه أحداث واقعية؟ وإن انتهينا إلى أنها واقعية،

ما هذه الفانتازيا التي لا تخفى في النصوص؟

الحق أن العوالم المصنوعة تبدو شبه واقعية لكن الجماليات المضافة لغويا

والمشاعر المتعمق في وصفها والفانتازيا التي لا تغيب عن الحكايات

تجعلك أمام مزيج جديد (بربري) مصنوع بيد الكاتبة من خامات متنوعة.
تلعب البربري ألعابًا لغوية، تتلاعب باللغة وتراقصها،

تقول مثلا في (حسرة): “حارَبَتْ المرض بكل ما أوتيت من ضعف!”

وتقول في (منفى): “أناس صبغت بشريتهم بلون بشرتي!”
مستويات اللغة عن ميرفت البربري متعددة؛ فهي تحقق التناص مع القرآن الكريم

في مواضع عديدة ولا تكتفي فقط بالتقارب بل تتدخل وتزيح ألفاظا وتضع أخرى بما يخدم نصوصها.

تقول (يا لأيامي الحزينة التي أعيشها، ينض عني ثوب العمر، فيجردني من أسمال كنت أظنها سترًا لشيخوختي،

وعصاةً يتوكأ عليها هِرمي، ومآرب أخرى من أنسٍ وودٍ وبرٍّ.)،

(صارت الحبة سبع سنابل تزداد وتنمو) و(يرتعد مرتدًا على عقبيه).

تحقق المستوى الجمالي عن عمد:

(أبيت مقيدة ليلا بأحلام تشبهني وأصحو على كابوس حياة أشاهدها في مرآتي.)

تحقق مستوى آخر شديد الجمال مستغلة في ذلك لغة العرب القريشية الأصيلة.

هناك أيضا المستوى التصويري في رسم حركة الشخوص أو سكونهم أقوياء كانوا أو مرضى.

والمستوى الشعوري النفسي العميق والمستوى الجسدي الذي تستغل فيه أعضاء الجسم

في رسم الصور التعبيرية (عدت إلى السكن وسري يفري كبدي / تركونا نبكي على كتف الوحشة).

المستوى الموسيقي لا يغيب أبدًا: (كان صديقًا أو ربما لم يكن، عشنا معا سنوات وأيام،

تعارفنا وتقاربنا وتباعدنا ثم عدنا لنلتقي) وهناك المستوى المرتبط بالطبيعة (لغة الطبيعة):

(يكاد يقصي أشعة الشمس إن هي حاصرت ظلي كي لا يرهق استلقائه على أسفلت الشارع

/ كنت كهشيم تزروه رياح الغضب).

وهناك المستوى الشعبي (وخالتي كريمة، ما بالها اليوم لئيمة؟).
تستغل البربري تقنية الاختزال المشهدي في تركيب صور متعددة في سطور أو

كلمات وبقصدية جمالية تزرع المعنوي محل المادي بشكل مدهش:

(كلما همت ليلة من ليالينا لمصافحته غض طرفه عنها وولى وجهه شطر التناسي) /

(ذات فرح – ذات حب – ذات صدفة) / (وزرع الورع على جانبي وجهه غابة كثيفة للتقى) /

(جاءني طفل يحمل بين كفيه إحدى عشر ربيعًا).
توحي النصوص بأن كاتبها قارىء نهم وواسع المعرفة ولا يهمل التفاصيل.

تنوع البربري أسلحتها السردية بين حكايات ماضوية تتخلل سرد آني باستغلال تقنية الاسترجاع

كما تكتب رسالة بديعة توزعها على فقرات في قصة (وثاق) والتي تنتهي بمفارقة رن فيها هاتف الزوج الخائن

مرة أخرى معلنا عن خيانة جديدة.
لو اعتبرنا أن البربري شاعرة أو متيمة بالشعر أو توظف الشعر بشكل جيد،

فعلينا إذن أن نفتش عن مواطن الجمال الشعرية بالنصوص:

فهناك التشخيص: (كنت أراقب لفتات القمر وغمزات النجوم من حوله /

وقف الخراب شامخًا أنفه يعانق الدمار / أحببت امرأة من قرنفل / كما أن هناك قصة كاملة المتحدث فيها شجرة)،

وهناك التشبيه: (أغمضت عيني هانئة بلمحات الماضي التي توالت تلمع كالنجوم في سماء مخيلتي/ وكأنها قنينة من خمر)، والاستعارة: (كان _أبي _ يقطف لنا من عناقيد راحته ثمار الأمان / كان مساء أبكم / أمشى كالمدائن العتيقة)،

والمبالغة (كأنه الربع الخراب)، والسخرية

(وولد واحد هو بحكم الشرنقة ديك البرابر / لص شريف هو ما دامت أخته عفيفة)،

والتهوين (حين تصف موت الأم بأنها لن تتألم بعد الآن)،

ونفي الضد (مرتش هو سيد الشرفاء ما دامت إبنته لا تزل بكرًا)،

والتناقض الظاهري (تحي موات القلوب / وجوده غاية دنياي وأخراي)،

والتقديم والتأخير (في كبد الضحى جاءوا يفتشون عن أوراق تثبت ممتلكتاتي)،

والاستجواب (أي عقيدة هؤلاء يعتنقون؟).
شخصيات البربري تعيش الحياة من منظور خاص بيد أنه لا ينفصل عن واقعه،

ينعزلون أو ينزوون أحيانا متخذين موقفا من أعداء الحياة،

(صاحبت أفئدة نقية وهجرت قلوبا سكنها الخبث والغل).

ففي (بورتريه) مثلا نجد رجل يصاحب كلبين عوضا عن البشر: زوج وابن وابنة هجروه جميعا.
هناك فلسفة تتوارى بين السطور.

تتضح مثلا في (رسالة) حين تتحدث الشجرة عن ضرورة إخفاء نبأ موت الطفل

عن أمه كي تعيش الأم على أمل عودته،

تنتصر البربري هنا للغياب على الموت لأن في البعد أمل وفي الموت يأس.
في (ري السراب)، تروي البربري قصصها بالجمال، تمزجه بالقص بشقيه الواقعي والفانتازي،

وتصنع وجبة هانئة للقارىء

 

قد يعجبك ايضآ